الثلاثاء، مايو 12، 2009

الحيـــــــــــــاة

رأيتهـا ...
رأيتهـا جنة خضراء...
كحـور من الجنـة...
يتيمة بوجهـها تمطر السمـاء...
في عينـيها رأيت الليل و النهــار و الحدائق الخضراء...
على شفتـيها تقرئ السـلام و اللـحن و الحنـان...
كانت شــعاع من صدق و حيوية...
فقد كـانت إنسـانة حية...
كـانت شواطـئ من ذهب...
كـنت شمـساً وقمـراً و شهب...
وحبـــاً للحيـــاة تغني بأعلى صوتها: يــا حيــاتي , يـا حبي , يا مرادي....
رأيتهـا ....
رأيتهـا جنة وسـط الذئـاب...
ترقص و تغني و تملأ الأكواب....
رأيتهـا تملأ الكوب مـاءا....
والذئـب يلهث مستاءا....
تهـاوى ذئـب أسفلهــا....
يريد أن يستسقي من ماءهـا...
صدته ونبذته من أمامهـا...
تجـرأ و طوقهـا...
تصرخ مرتعشة أهدابــها...
تصرخ تحت مزابل القمامة...
صرخ فيها إبقي خرســـاء مرغوبة لحين القيامة...
رأيتهـا...
رأيتهـا تدق بقبضتها السرادق و الأبواب والنوافذ...
أنـكرتها مدينة النواخذ و نبذتهـا...
وعندمــأ تعرى الذئب منها إنسحب وغطت بيديهـا عرييهـا...
بكت وبكت على مدينة النواخذ...
بكت على أطلال المنازل و السرادق...
رأيتـها تبحث في القمـامة عن قمـاش يسترها ليوم القيامة...
عن شهب تنيرها و تنير طفولتها اليتيمة...
لعنت قطع النقود والأكواب و الخمـائل...
لعنت بقايا الرمـاد الأسود و الهياكل...
لا و لا قالتـها السمـاء...
ثوري ولا تخافي أحداً كلهم أعداء...
ثوري على الذئاب الأوغاد...
ثوري ثوري على بقايا الأسود و الرماد...
و أنصاعت للسماء...
رأيتـها...
رأيتهـا وقد ظهر الذئب مرة أخرى...
وعلى وجههـأ ولن يعيش مرة أخرى...
إستلت من غمدهـا خنجـراً...
رأيتهـا تستل سيـفاً بعيني ...
خنجراً بيدهـا...
طعنتـه ...
وطعنت الذئاب بقايا الهياكل...
لعل كلباً جائعـا يلقاه في المزابل...
رأيتهـا...
رأيتهـا تقتل روحـا خبيثه...
و أدمعت عينها كالغابة الحزينة...
رأيتها تقتاد للقفص الحديدي...
الذي طالمـا مّرَ عليه قله ثوار...
ثاروا على الحياة بأسم الجبار...
لأنهم قالوا إلى الجحيم كلكم إلى الجحيم...
كلكم أيها الأوغاد إلى الجحيم...
يا بقايا الأسود والرماد والهياكل إلى الجحيم...
يا أيتها الحياة إلى الجحيم...
رأيتـها...
رأيتهـا تفتح عينيها و فاها على نفسها...
و هي تقتاد كالشاة...
إلى المذبح المقدس...
رأيتها تطلب قلما و ورق...
و جعلت تكتب و ترسم...
تدعو و تبكي...
و الساعة تحسب الدقائق و الثواني

رأيتها...
رأيتها على جدار الموت...
متدكية على الشرق و الغرب...
تنتظر أكاليل الزهور على عنقها...
و ملك الموت خلفها...
و في تلك الزاوية رجل أسود...
على شفتيه سيجارة و دخان يصعد...

قالت لي حينها وسط وجهها الضائع:
"عندما فقدنا صدق الأحساس و العاطفة في عالم واحد، تعلمنا أن يكون لكل واحد فينا أوجه و أدوار عدة في الحياة "...

تأفف الأسود...
و أشار إلي بالتراجع...
و بحركة من يديه إخترقتها خمس رصاصات...
و إنسكب الدم من خمسة ثقوب...
على الأرض الناعمة صارت تتهاوى...
إنهمرت الدموع من عيني...
و إبتل مبكاي...
بالدعاء...
و إرتفعت يدي للآله...
و أجهشت بالبكاء...
إنتفضت نفضة قوية و أخيرة...
نفضتها الأخيرة...
معلناً صعود روحها إلى السماء...
فوق القمر و النجوم إلى العرش العظيم...

رأيتها...
رأيتها... بإبتسامتها...
و هي على الأرض غارقة بدمائها...

عندها تذكرت قولها لي :
"أني أموت من أجل حياتي و شرفي، و مستعدة لأن أضحي لأجلهما
و من شدة حبي لهما أريد تمزيقهما لأتحرر منهما"

رأيتها...
رأيتها و لم أصدق عيني...
بحثت عنها بين الأحياء الموتى...
و بين الموتى الأحياء...
كانت كالزهرة على حافة القلب تنمو...
و قد أحرقتها العيون ذات الألوان الشتائية المطفأة...
كانت زهرة للدمع تسير...
كانت حبا و حزنا و كبرياء...
و الآن أصبحت...
زهرة بقبرها الصغير...
وددت لو عميت في لحظات الوداع الأخير...
في هذا المساء...
لم تعد الجنات و الزهور الجميلة...
ترقص و تغني بعد الذكرى الحزينة...
كان قلبها الذي نسجته الجروح...
كان قلبها الذي لعنته الشروخ...
يرقد – الآن – فوق بقايا المدينة...
وردة من بنفسج... هادئة جميلة...

بعد أن قالت لا للذئاب الأوغاد و المدينة...
و نعم للموت و السكينة...

و في ليلة الفزع و الخوف البهيم...
و بينما في المدينة يسود الفرح و السرور العظيم...

حط هامة* على قبرها الصغير يصيح :
" خذوا بثأرها، أيتها المدينة خذي بثأرها "
لم يصغ إليه و لم يلق جوابا...
" أيتها الحياة خذي بثأرها "

فأجابوه بلا و رموه بالمزبلة...
" رموني بالمزبلة أبناء السفلة، رموني بالمزبلة"
"لعنة عليك أيتها الحياة"...
ظل يقولها إلى أن مات بجنبها...
مقهورا...
و هو يردد " لعنة عليك أيتها الحياة !!! "...



*هامة : هامة المقابر وهي طائر من طيور الليل يألف المقابر, فزعموا العرب قديما أن القتيل إذا لم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة لاتزال تصيح : اسقوني , اسقوني , فلا تكف عن الصياح حتى يؤخذ بثأر القتيل .


سعيد الرحبي
15.01.98

هناك تعليق واحد: